فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ}
{بدأ} أي أمر يوسف عليه السلام بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبلَ وعاء أخيه الشقيق.
وأوعية: جمع وعاء، وهو الظرف، مشتق من الوعي وهو الحفظ. والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يُوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر.
وتأنيث ضمير: {استخرجها} للسقاية. وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعًا.
فهو كردّ العجز على الصدر.
والقول في: {كذلك كدنا ليوسف} كالقول في: {كذلك نجزي الظالمين} [سورة يوسف: 75].
والكَيْد: فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي.
والكيد: هنا هو إلهام يوسف عليه السلام لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المُصْمَت.
وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسبّبه.
وجعل الكيد لأجل يوسف عليه السلام لأنه لفائدته.
وجملة {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله} بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مَرغوب يوسف عليه السلام من إبقاء أخيه عنده، ولولا ذلك لمَا كانت شريعة القبط تخوله ذلك، فقد قيل: إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته.
وعن مجاهد: {في دين الملك} أي حكمه وهو استرقاق السراق.
وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} أي لولا حيلة وضع الصُّواع في متاع أخيه.
ولعل ذلك كان حكمًا شائعًا في كثير من الأمم، ألا ترى إلى قولهم: {من وجد في رحله فهو جزاؤه} [سورة يوسف: 75] كما تقدم، أي أن ملك مصر كان عادلًا فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق.
ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين، فتعين أن المراد بالدّين الشريعة لا مطلق السلطان.
ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف عليه السلام أخذ أخيه عنده.
والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية.
وفي الكلام حرف جر محذوف قبل أن المصدرية، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ، أي أسبابه.
فالتقدير: إلا بأن يشاء الله، أي يُلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف عليه السلام في عَمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم.
وجملة: {نرفع درجات من نشاء} تذييل لقصة أخذ يوسف عليه السلام أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف عليه السلام في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله.
ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف عليه السلام في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه.
ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف عليه السلام وحنوه عليهم.
فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول.
وتقدم في قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} في سورة البقرة (228)، وقوله: {لهم درجات عند ربهم} في سورة الأنفال (4).
وجملة {وفوق كل ذي علم عليم} تذييل ثان لجملة: {كذلك كدنا ليوسف} الآية.
وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس.
والفوقية مجاز في شرف الحال، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع.
وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف: {عليم} باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه.
وظاهر تنكير: {عليم} أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى.
فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه.
ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم.
وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة والتعظيم، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص.
وقرأ الجمهور: {درجات من نشاء} بإضافة: {درجات} إلى: {من نشاء}.
وقرأه حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف بتنوين: {درجاتٍ} على أنه تمييز لتعلق فعل: {نرفع} بمفعوله وهو: {من نشاء}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ}
وكان الهدف من البَدْء بتفتيش أوعيتهم؛ وهم عشرة؛ قبل وعاء شقيقه، كي ينفي احتمال ظنِّهم بأنه طلب منهم أن يأتوا بأخيهم معهم ليدبر هو هذا الأمر، وفتش وعاء شقيقه من بعد ذلك؛ ليستخرج منه صُوَاع الملك؛ وليُطبِّق عليه قانون شريعة آل يعقوب؛ فيستبقي شقيقه معه. وهذا دليل على الذكاء الحكيم.
وهكذا جعل الحق سبحانه الكيد مُحْكمًا لصالح يوسف، وهو الحق القائل: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76].
أي: كان الكيد لصالحه.
ويتابع سبحانه: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [يوسف: 76].
أي: ما كان يوسف ليأخذ أخاه في دين الملك الذي يحكم مصر؛ لولا فتوى الإخوة بأن شريعتهم تحكم بذلك.
ويتابع سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
وهكذا رفع الله من شأن يوسف، وكَادَ له، وحقَّق له أمله، وهو يستحق كل ذلك؛ ورفعه سبحانه درجاتٍ عالية من العلم والحكمة.
ولم يكُنْ الكيد بسبب أن يُنزِل بشقيقه عذابًا أو ضياعًا، بل نريد ليوسف ولأخيه الرِّفْعة، فكأن كثيرًا من المصائب تحدث للناس، وهم لا يَدْرون ما في المحنة من المِنَح.
وعلى المؤمن أن يعلم أن أيَّ أمر صعب يقع عليه من غير رأي منه؛ لابد وأن يشعر أن فيه من الله نفعًا للإنسان.
وإخوة يوسف سبق أنْ كَادوا له، فماذا كانت نتيجة كَيْدهم؟
لقد شاء الحق سبحانه أن يجعل الكيد كله لصالح يوسف، وجعله سبحانه ذَا علم، فقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
و{ذي علم} أي: صاحب علم. وكلاهما مُنْفِصل، أي: هناك صاحب، وهناك علم، والصاحب يوجد أولًا؛ وبعد ذلك يطرأ عليه العلم؛ فيصير صاحبَ عِلْم، ولكن فوقه: {عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. أي: أن العلم ذاتيّ فيه، وهو الحق سبحانه وتعالى. فماذا كان موقف أخوة يوسف؟
بطبيعة الحال لابد أنهم قد بُهِتوا، أول تصرف منهم كان لابد أن ينصرف إلى الأخ الذي وُجدت السقاية في رَحْله؛ وأخذوا يُوبِّخونه؛ لأنه أحرجهم وفضحهم، وبحثوا عن أسباب عندهم للحفيظة عليه؛ لا للرفق به.
وموقفهم المُسْبق منه معروف في قولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8].
وهم يعلمون أن يوسف وأخاه من امرأة أخرى هي راحيل، ولو كان شقيقًا لهم لَتلَّطفوا به. وأوضح لهم: إن مَنْ جعل البضاعة في رِحَالي هو مَنْ جعل البضاعة في رِحَالكم.
وهنا قال أحد الأخوة: تالله، يا أبناء راحيل، ما أكثر ما نزل علينا من البلاء منكم، فَرَدَّ بنيامين: بنو راحيل نزل عليهم من البلاء منكم فوق ما نزل عليكم من البلاء منهم. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى}
يعني: أجعله في خاصة نفسي.
فلما خرج يوسف من السجن، ودّع أهل السجن، ودعا لهم، وقال: اللهم اعطف قلوب الصالحين عليهم، ولا تستر الأخبار عنهم.
فمن ثمة تقع الأخبار عند أهل السجن، قبل أن تقع عند عامة الناس.
ولما دخل يوسف على الملك وكان الملك، يتكلم سبعين لسانًا، فأجابه يوسف بذلك كله.
ثم تكلم يوسف بالعبرانية، فلم يحسنها الملك، فقال: ما هذا اللسان يا يوسف؟ قال: هذا لسان آبائي إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب عليهم السلام.
ثم كلمه بالعربية، فلم يحسنها الملك.
فقال: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان عمي إسماعيل: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} أي: قال له الملك: {مَّكِينٍ} في المنزلة: {أَمِينٌ} على ما وكلتك.
قَالَ له يوسف عليه السلام: {اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض} يعني: على خراج مصر: {إِنّى حَفِيظٌ} للتدبير.
ويقال: {حَفِيظٌ} بما وكلت به: {عَلِيمٌ} بجميع الألسن.
ويقال: عليم بأخذها، ووضعها مواضعها.
وإنما سأل ذلك صلاحًا للخلق، لأنه علم أنه ليس أحد يقوم بإصلاح ذلك الأمر مثله.
ويقال: {حَفِيظٌ} يعني: عليمًا بساعة الجوع.
وكان الملك يأكل في كل يوم نصف النهار.
فلما كانت الليلة التي قضى الله بالقحط، أمر يوسف بأن يتخذ طعام الملك بالليل.
فلما أصبح الملك، قال: الجوع الجوع.
فأتي بطعام مهيئ.
قال: وما يدريكم بذلك؟ قالوا: أمرنا بذلك يوسف.
ففوض الملك أموره كلها إلى يوسف، وهو قوله تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} يعني: صنعنا ليوسف: {فِى الأرض} يعني: أرض مصر: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا} يعني: ينزل منها: {حَيْثُ يَشَاء}.
قرأ ابن كثير: {حَيْثُ نَشَاء} بالنون يعني: حيث يشاء الله.
وقرأ الباقون: بالياء: {حَيْثُ يَشَاء} يوسف: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء} نختص بنعمتنا، النبوة، والإسلام، والنجاة من نشاء: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} يعني: لا نبطل ثواب الموحدين، حتى نوفيّه جزاءه في الدنيا، ومع ذلك له ثواب في الآخرة، فذلك قوله تعالى: {وَلاَجْرُ الآخرة خَيْرٌ} يعني: ثواب الآخرة أفضل مما أعطي في الدنيا: {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: صدقوا بوحدانية الله تعالى: {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الشرك.
وروي في الخبر، أن زوج زليخا مات.
وبقيت امرأته زليخا.
فجلست يومًا على الطريق، فمر عليها يوسف في حشمه.
فقالت زليخا: الحمد لله الذي جعل العبد ملكًا بطاعته، وجعل الملك مملوكًا بشهوته، وتزوجها يوسف فوجدها عذراء، وأخبرت أن زوجها كان عنينًا، لم يصل إليها.
ثم وقع القحط بالناس حتى أكلوا جميع ما في أيديهم، واحتاجوا إلى ما عند يوسف.
وقد كان يوسف جمع في وقت الخصب، مقدار ما يكفي السنين المجدبة للأكل والبيع، فجعل الناس يعطونه أموالهم، العروض، والرقيق، والعقار، وغير ذلك.
ويأخذون منه الطعام.
ووقع القحط بأرض كنعان، حتى أصاب آل يعقوب الحاجة إلى الطعام.
فقال يعقوب لبنيه: إنهم يزعمون أن بمصر ملكًا يبيع الطعام، فخرج بنو يعقوب وهم عشرة نحو مصر، حتى أتوا يوسف فدخلوا عليه، وعليه زي الملك فلم يعرفوه، وعرفهم يوسف وكلموه بالعبرانية، فأرسل يوسف إلى الترجمان، وهو يعلم لسانهم.
ولكنه أراد أن يشتبه عليهم، فذلك قوله تعالى: {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} يعني: عرف يوسف أنهم إخوته: {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} يعني: لم يعرفوا أنه يوسف.
لأنهم رأوه في حال الصغر، وكان يوسف على زي الملوك، بخلاف ما كانوا رأوه في الصغر.
روى أسباط عن السدي وغيره، قال: استعمله الملك على مصر، وكان صاحب أمره الذي يلي البيع والتجارة.
فبعث يعقوب بنيه إلى مصر فلما دخلوا على يوسف، عرفهم.
فلما نظر إليهم، قال: أخبروني ما أمركم؟ فإني أنكر شأنكم.
قالوا: نحن قوم من أرض الشام.
قال: فما جاءكم؟ قالوا: جئنا نمتار طعامًا.
قال: كأنكم عيون.
كم أنتم؟ قالوا: عشرة.
قال: أنتم عشرة آلاف.
كل رجل منكم أمير ألف.
فأخبروني خبركم.
قالوا: إنا إخوة بنو رجل، صديق، وإنا كنا اثني عشر، فكان أبونا يحب أخًا لنا، وهو هلك في الغنم، ووجدنا قميصه ملطخًا بالدم، فأتينا به أبانا، فكان أحبنا إلى أبينا منا.